يُعدّ كتاب "الرأسمالية بدون رأس مال"، الذي صدر عن "منشورات جامعة برينستون"، بمثابة تقريرٍ شامل عن تزايُد هيمنة الاقتصاد غير الملموس؛ وهو يقدم عدسةً مكبّرة لرؤية الاقتصاديات الحديثة والمبتكرة، وفهم آلية عملها في العالم ذي التطوُّرات المتسارعة الذي نحيا فيه اليوم.
ويذهب مؤلّفاه، الأكاديميّان البريطانيان جوناثان هاسكل وستيان وستليك، إلى أن ثمّة ثورة اقتصادية هادئة حدثت في أوائل القرن الحادي والعشرين، تمثّلت في توجُّه الاقتصادات الكبرى في الدول المتقدّمة نحو الاقتصاد غير الملموس.. وذلك عبر الاستثمار، وبشكل أكبر، في قطاعاتٍ مثل التصميم، والبرمجيات، والعلامات التجارية، والاستثمار بشكل أقلّ في الأصول الملموسة مثل الآلات والمباني وأجهزة الكمبيوتر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اعتبر مؤسس شركة مايكروسوفت (بيل جيتس) الكتاب واحداً من أفضل الكتب التي قرأها، إلى حد أنه كتب في مدونته الشخصية مقالاً حول هذا الكتاب بعنوان "لماذا لا يهتم عدد كافٍ من الناس بهذا الاتجاه الاقتصادي" كتب فيه:
مخطط العرض والطلب
بحلول الفصل الدراسي الثاني من سنتي الأولى في جامعة هارفارد، كنت قد بدأت حضور مادة "مقدمة الاقتصاد"؛ كنت مفتوناً بالموضوع، وكان الأستاذ ممتازاً بحق.. وكان أحد الدروس الأولى التي علّمنا إياها هو مخطط العرض والطلب.. في الوقت الذي كنت فيه في الكلية، كانت هذه هي الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي: هناك نوعان من الافتراضات التي يمكنك القيام بها على أساس هذا المخطط. الأول لا يزال صحيحاً إلى حد ما اليوم: مع ارتفاع الطلب على المنتج، يزداد العرض، وينخفض السعر.. و في ظل ثبات جميع المؤثرات الأخرى، فإن انخفاض السعر يدفع المستهلكين إلى شراء القدر نفسه أو قدر أكبر من السلعة أو الخدمة.
تقاطع الخطوط
العكس صحيح؛ إذا كان السعر مرتفعاً جداً، ينخفض الطلب.. الأمر المثير للاهتمام هو عندما يتقاطع الخطان ويحدث التوازن. والتوازن سحري، لأنه يزيد من قيمة المجتمع.. حيث تكون السلع بأسعار معقولة، وفيرة، ومربحة؛ ويكون الكل سعيد.. والافتراض الثاني الذي يقدمه هذا المخطط هو أن التكلفة الإجمالية للإنتاج تزداد مع زيادة العرض. تخيل فورد تطلق طرازًا جديدًا من السيارات. أول سيارة تكلف أكثر قليلا في تصنيعها، لأنه عليك أن تنفق المال في التصميم والاختبار.. لكن كل مركبة بعد ذلك تتطلب كمية معينة من المواد والعمالة.. السيارة العاشرة التي تصنعها تكلف نفس تكلفة السيارة رقم 1000.
تطوير البرمجيات
ينطبق الشيء نفسه على الأشياء الأخرى التي هيمنت على الاقتصاد العالمي خلال معظم القرن العشرين، بما في ذلك المنتجات الزراعية والممتلكات.. بيد أن البرمجيات لا تعمل بهذه الآلية.. مايكروسوفت قد تنفق الكثير من المال لتطوير الوحدة الأولى من برنامج جديد، ولكن كل وحدة بعد ذلك تكون تكلفتها صفراً تقريباً.. وعلى عكس السلع التي دعمت اقتصادنا في الماضي، فإن البرمجيات هي أصل غير ملموس.. والبرمجيات ليست المثال الوحيد؛ فهناك أيضاً البيانات، والتأمين، والكتب الإلكترونية، وحتى الأفلام.
ويستطرد جيتس بقوله إن الاقتصاد غير الملموس يتمدّد بسرعة.. ورغم أنه لم يحظ بعدُ بالاهتمام المطلوب، فإن تداعياته يُمكن ملاحظتها بوضوح في مجالاتٍ عدّة؛ بدءاً بقوانين الضرائب، مروراً بالسياسات الاقتصادية العامّة، ووصولاً إلى تأثيره في ازدهار مدن واضمحلال أخرى.. ويضيف صاحب ومؤسّس عملاق البرمجيات "مايكروسوفت" أن كتاب "رأسمالية بدون رأس مال" يُقدّم شرحاً مستفيضًا حول آلية عمل الاقتصاد غير الملموس وأهميته التي تجذّرت بسرعةٍ في حياتنا.
تعديل السياسات
فالكتاب مبسط وأشبه بكتاب مدرسي دون الكثير من التعليقات.. ويأخذ المؤلفان الوقت الكافي لإقناعك بأهمية هذا التحوّل ويطرحان الرؤى والأفكار حول ما يمكن للبلدان القيام به لمواكبة العالم الجديد.. ويستمر جيتس، في تعليقه على الكتاب، بالقول إن ما يُعزّز من أهميته هو أن المشرّعين بحاجة إلى تعديل سياساتهم الاقتصادية لتعكس هذه الحقائق الجديدة.
فعلى سبيل المثال، فإن الآليات التي تستخدمها العديد من البلدان لقياس الأصول غير الملموسة تعود إلى الماضي.. لذا فإن هذه البلدان تحصل على صورة غير كاملة للاقتصاد؛ فبلدٌ مثل الولايات المتّحدة الأمريكية لم يُدخل البرمجيات ضمن حسابات الناتج المحلّي الإجمالي حتى عام 1999.
وحتى اليوم، فإن الناتج المحلّي الإجمالي لا يضع اعتباراً للاستثمار في مجالات الاقتصاد غير الملموس التي تُنفق عليها الشركات مبالغ ضخمة، مثل أبحاث السوق والعلامات التجارية والتدريب.. وهذا هو واحد من أكبر الاتجاهات في الاقتصاد العالمي التي لا تحصل على ما يكفي من الاهتمام.. ويحدد هاسكل وستليك بعض الأسباب التي تجعل الاستثمار غير الملموس يعمل بآلية مختلفة:
* أولًا: تكلفته باهظة. إذا لم ينجح استثمارك، فلن يكون لديك أصول مادية مثل الآلات التي يمكنك بيعها لاسترداد بعض أموالك.
* ثانياً: أكثر قابلية للتطوّر من الأصول المادية؛ لأنه بعد المصاريف الأوليّة للوحدة الأولى، يمكن تكرار المنتجات إلى ما لا نهاية مقابل صفر تكلفة.
ويشدد جيتس على حاجتنا إلى مفكرين أذكياء حقاً وخبراء اقتصاديين بارعين يتعمقون في الإجابة على أسئلة من قبيل هل قوانين العلامات التجارية وبراءات الاختراع صارمة للغاية؟ هل تحتاج سياسة المنافسة إلى تحديث؟ كيف يمكن تغيير السياسات الضريبية، إن وجدت؟ وما هي أفضل طريقة لتحفيز الاقتصاد في عالم الرأسمالية بدون رأس المال؟.
ويرى جيتس أن كتاب "الرأسمالية بدون رأس مال" هو أول كتاب يعالج هذه الأمور بعمق، ويعتقد أنه يتعين على صانعي السياسات قراءته.. وفي الأخير يسلم جيتس بحقيقة أن عالم الاستثمار استغرق بعض الوقت لتقبل الشركات المبنية على الأصول غير الملموسة.. في الأيام الأولى لمايكروسوفت، شعر جيتس وكأنه يشرح شيئًا غريباً تماماً عن الناس.. وقد تضمنت خطة عملهم النظر إلى الأصول بطريقة مغايرة تمامًا عن الطريقة التقليدية التي اعتاد عليها المستثمرون. ولكنهم لم يتوقعوا العوائد والأرباح الخيالية التي يمكن تحقيقها على المدى الطويل.
* المصدر: جيتس نوتس