info@assayad.com     +971 2 443 7475     +971 777 55 33
العدد 3907
 - 
الخميس ١٨ - أبريل - ٢٠٢٤ 
ABU DHABI
ABU DHABI
الخميس ١٨ - أبريل - ٢٠٢٤  /  العدد 3907
الأرشيف
تابعونا على فيس بوك
تابعونا على تويتر
وجهات نظر
صديقتي "اللّئيمة"
نعم هي صديقتي.. و"صديقتي" جدّاً.. استدرجتني للتعرّف عليها من حيث لا أشعر، وفي كل يوم كانت صداقتنا تتوطّد وتزداد عمقاً ورسوخاً، حتّى غدت أعزّ أصدقائي.. وشيئاً فشيئاً صارت تتدخّل في تفاصيل حياتي اليومية، وبكلّ شاردة وواردة.. ومن منطلق أن "الأصدقاء لبعضهم" قدّمت لي خدمات جليلة لا أستطيع إنكارها.. وما قصّرت. صديقتي هذه رغم "الصّداقة الحميمة" بيننا إلا أنها "لئيمة".. نعم أقولها بكلّ أسف.. هي من النّوع الذي لا بد أنّكم صادفتموه يوماً، يريد منك أن تكون صديقه هو فقط.. يحتكرك لنفسه، ويدعوك إلى قطع علاقتك بأصدقائك القدامى الذين كنت تعرفهم قبله.. ويضرب يده على صدره قائلاً: "سأعوضك عنهم جميعاً"..


ولكي لا تذهب بكم الأفكار بعيداً.. وتظنّون بي الظنونا.. أعرّفكم عليها قبل أن "تقع الفاس بالراس".. ولأن هذه المقالة قد تقع بين يدي زوجتي.. بما أنها تقرأ لي أحياناً.
صديقتي هذه ليست من بني البشر.. هي السيدة "تكنولوجيا".. تعرّفت عليها غصباً عنّي، أولاً.. لأنني منذ نشأتي "كائن يدوي" واستمتع بذلك.. ثانياً.. لمّا عرفتها كنت قد تخرّجت من الجامعة، وربما كان جيلي كلّه من "الكائنات اليدوية" مثلي.. واضطررت - أنا وهم - لصداقتها حتّى لا نتخلّف عن الركب.. واليوم هي ليست صديقتي لوحدي، بل هي صديقتكم جميعاً.. وأظنّها تعاملكم بالطّريقة نفسها من "اللؤم" و"الاحتكار". في مهنة الصّحافة التي أمضيت فيها ما يزيد عن عشرين عاماً متواصلة.. ساعدتني هذه الصديقة مراراً.. اختصرت عليّ الوقت والمسافة والجهد.. لكن كثيراً من "أصدقائي" خسرتهم بسببها.. أفتقدهم وأحنّ إليهم وأتذكر أيّامي معهم.. وكلما رأتني اقترب من أحدهم خاصمتني.. وأنّبتني قائلة: أنا أكتب وأحسب عنك.. وأحفظ وأتذكّر عنك.. وأرسم وألوّن وأصوّر عنك.. وأراسل عنك.. وأرد عنك..! أيتها "التكنولوجيا" أنت فعلاً صديقتي.. لكن لديّ أصدقاء آخرين أحبّهم ويحبّونني.. تربّينا معاً وكبرنا معاً.. لكنك تصرّين باسم "العلم" و"التطور" و"الحضارة" على حرماني منهم..هل عرفتم من هم..! "التكنولوجيا" تغريني بسهولة الكتابة برأس الأصبع على شاشة الهاتف الذّكي.
وأنا أفتقد "دواة الحبر" التي كنت في صغري أستمتع وأنا أغمس فيها ريشة قلم الـ" ستيلو".. وأشفط منها الحبر لأملأ "الخرطوش" عن آخره .. وأنا مرعوب من احتمال أن تندلق وتخرب الدنيا. "التكنولوجيا" حشرت لي في هاتفي مكتبة كاملة، أستدعيها وأتصفّحها بأناملي.. صفحة صفحة.. وأنا أفتقد رائحة الورق.. وملمس جلد أغلفة الكتب.
"التكنولوجيا" مكّنتني من مراسلة من أريد بلحظات.. واستقبال ردّه بلحظات.. صوتاً وصورة.. وأنا أفتقد ظروف الرسائل البريدية.. وأحنّ إلى "لحس" الطّابع ولصقه، وتمريغ قبضتي فوقه لأتأكّد من استقراره مكانه.
"التكنولوجيا" تتيح لي أن أتراجع عن خطأ الكتابة بلمسة واحدة على زر "ديليت".. وأنا أفتقد الممحاة ذات اللّونين الأحمر والأزرق.. أحكّ بها دفتري وأمحو خطئي ثم أنفخ.. وكأنّ شيئاً لم يكن. "التكنولوجيا" تمكنني من تسجيل وتخليد أيّة لحظة.. بصورة ملّونة خلال ثوان بواسطة هاتفي. وأنا أفتقد كاميرتي "الأبيض والأسود" وفيلمها "36 صورة".. وحرصي على إغلاقها بإحكام حتّى لا يتسلّل الضوء إلى داخلها فيحرق الفيلم بمن فيه.. ثم "أحمّضه" وأنتظر أسبوعاً لأستلمه من المصور.. وأتفحّص شريط "النيكاتيف" وأرفعه باتجاه النّور لأرى ألوان الأشخاص معكوسة.
"التكنولوجيا" فتحت لي على هاتفي نوافذ لمئات القنوات الفضائيّة، تنقل لي أخبار أمم الأرض جميعاً.. وأنا أفتقد التلفزيون القديم بقناة واحدة و"نصف".. وشريط الهوائي "الأنتين" نمدّه إلى السطح ونعيد "دوزانه" كلّما هبّت الريح عابثة باتجاهه. "التكنولوجيا" حرمتني من أشيائي الصّغرى التي أعتبرها "أصدقاء" طفولتي..
اشتقت لدفاتري وخطّ الهامش الأحمر.. أقلام الرّصاص والمبراة والمسطرة الخشبيّة والبيكار والمنقلة.. وعلبة الألوان و"المزّاجة" التي تشبه علبة البيض.. اشتقت للهاتف "أبو قرص" ينشّط ذاكرتي التي كانت تحفظ مئات الأرقام.. ولساعة "المنبّه" توقظني - أنا والجيران - كل صباح..
* * *
منذ أيّام قرأت خبراً أصابني بالذهول وأخافني.. مفاده أن علماء يطوّرون تقنيّة لتدريب الكمبيوتر كي يستطيع التعرّف على الرّوائح.. وأنّه على وشك أن تنجح "التكنولوجيا" في جعله "يشمّ" أيضاً .. هل رأيتم صديقتي كم هي "لئيمة"..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


اخترنا لكم